مشكلة الوهم و الإديولوجيا

            مشكلة الوهم والإديولوجيا

   بعد التقصي الحثيث في مدارج البحث عن صدقية الفرضيتين ("ربما الإنسان عاقل" و " ربما الإنسان غير عاقل") تبين لنا أن الحجج العلمية و الفلسفية على سواء تثبت كلى القضيتين اللتان كانتا تبدوان في أول وهلة متناقضتين. الأمر حقا غريب! كيف للإنسان أن يجمع بين ثناييه العقل وضده، الإثبات والنفي، النور والظلام! نحن وإن سلمنا بما توصلنا إليه من خلال البحث المضني والتأمل الفلسفي والملاحظات التجريبية لعلماء النفس، فهذا لا يدفعنا البتة إلى الارتكان بحقيقة هذه النتائج؛ فما أدرانا إن كانت بعض الحجج التي توسلناها لم تكن مبنية على أسس عقلية أوعلمية متينة، فأخذنا بها دون أن ندري !

حري بنا أن ننهج سبيل "ديكارت" الذي يدعونا في آخر خطوات منهجه لمراجعة كل خطواتنا السابقة، كي لا تتسرب داخل قناعاتنا بعض من الأوهام ونحن نظن أنها حقائق، أو نتشبث بإديولوجا ما ونحن الذين أردنا منذ البدء أن نأخذ مسار النقد لكل أشكال الوعي الزائف. ولذلك وجب في البدء الكشف عن طبيعة الخطر الذي يعتري أي باحث ـ سواء في العلوم الإنسانية أو الدينية أو الرياضية أو التجريبية ـ

1.       طبيعة الأوهام

يشير الفيلسوف "فرنسيس بيكون" (1626-1561) أن هناك" أربعة من الأوهام تحدق بالعقل الشري... هي أوهام القبيلة، وأوهام الكهف، وأوهام السوق وأوهام المسرح."[1] هذه الأوهام التي أفصح عنها لا تكاد تنفك من مخالجة فكر الإنسان، سواء من حيث طبيعته كفرد منعزل أو داخل الجماعة. إذ الأوهام العامة هي ما تكون مباطنة للطبيعة البشرية، فتجعل العقل يصور الواقع بطريقة متؤثرة بمعتقدات الجماعة التي ينتمي إليها، فتشوه الواقع وتغير شكله. كما أن من الأوهام ما هو نتيجة تفكر وتدبر ذاتي ينشأ من خلال القراءات الخاصة بالفرد، إذ أن لكل فرد كهفه الخاص على حد قول الفيلسوف بيكون. غير أن هذا الأخير يبرز لنا أن طبيعة العلاقات الناجمة عن تواصل الأفراد فيما بينهم تنشئ هي أيضا نوعا جديدا من الأوهام تتمثل في اللغة التي يتواصلون بها " فينجم عن الصياغة السيئة وغير الملائمة للكلمات عائق عجيب للعقل. فالألفاظ تفسر الذهن بشكل غير واضح وتؤدي إلى الخلط وإلى تناقضات لا حصر لها."[2] أما الأوهام المذهبية فيحذر بيكون من خطورتها، فهي تنشأ بفعل المعتقدات الفلسفية و العلمية، "وقواعد الاستدلال التي يساؤ استعمالها. فالكثير من المذاهب الفلسفية التي تلقيناها أو تخيلناها هي مثل كثير من المسرحيات التي شاهدناها، تخلق لنا عوالم وهمية"[3].

إن وعينا بهذا المعنى محاط بالأوهام سواء كانت فردية أو جماعية أو ما ينشأ عنهما من أوهام مذهبية أو تواصلية، فيكاد العقل البشري بهذا المعنى لا يجد مناصا من خطر الوعي الزائف الذي يصعب تصحيح أخطائه، حيث أن الوهم يصيب آلة التفكير سواء المنطق أو الاستدلال كما يصيب أيضا اللغة، مما يحول دون الكشف عن الخطأ الذي لا يظهر إلا بواسطة التفكير الذي شوه مسبقا.

2.      الإيديولوجيا

2- 01 يقول أندري لالاند في موسوعته الفلسفية[4]: " IDEOLOGIE  فكروية (إديولوجيا ، أدلوجة ) .

أ‌)        كلمة ابتكرها دستوت دو تراسي Destutt de Tracy  أنظر كتابه " مذكرة حول ملكة التفكير (مذكرة الصف الثاني في المعهد، الجزء الأول، 1796-1798): علم موضوعه دراسة الأفكار، (بالمعنى العام، لظواهرالفكر) ومزاياها وقوانينها وعلاقاتها مع العلامات التي تمثلها وبالأخص أصلها. (...)

ب‌)    بالمعنى المبتذل، تحليل أو نقاش فارغان لأفكار مجردة، لا تتطابق مع وقائع حقيقية. (...)

ت‌)    مذهب يلهم أو يبدو أنه يلهم حكومة أو حزبا.

ث‌)    فكر نظري يعتقد أنه يتطور تدريجيا في غمار معطياته الخاصة به، لكنه في الواقع، تعبير عن وقائع اجتماعية، ولاسيما عن وقائع اقتصادية، فكر لا يعيه ذلك الذي يبنيه، أو على الأقل لا يأخذ في حسبانه أن الوقائع هي التي تحدد فكره. بهذا المعنى شديد التداول في الماركسية".

بينما الفيلسوف كارل ماركس (1818 - 1883) يعتبر أن منهجه في تقصي الوعي وآثار الإديولوجيا عليه، تتحدد انطلاقا من تتبع الحياة الواقعية العملية للإنسان، داخل التفاعلات المتصلة بعملية الإنتاج والعلاقات المادية. ذلك أن " الناس هم الذين يعدلون ويطورون أفكارهم خلال عملية الانتاج المادي التي يقومون بها وخلال العلاقات الماديةالتي تنشأ بينهم. ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة الاجتماعية، بل الحياة الاجتماعية هي التي تحدد الوعي "[5] .

أن هذا الرأي لماركس، سيأخذ تفسيرات كثيرة من أهمها : التأويل الهرمينوطيقي للفيلسوف "بول ريكور"[6] والتحليل النفسي البنيوي للفيلسوف " لويس ألتوسير"[7] .

أ‌)       التأويل الهرمينوطيقي للفيلسوف "بول ريكور"

أقترح ثلاث استعمالات أساسية لمفهوم الإيديولوجيا، يرتبط كل واحد منها بمستوى معين من العمق، في عمل هذا المفهوم:

1-       ينطلق الاستعمال الأول لمعنى الإيديولوجيا، كاختلال و تشويه للواقع و هو المعنى الشائع لكلمة ، كاختلال و تشويه للواقع، و هو المعنى الشائع لكلمة إيديولوجيا الذي انتشر اليوم بين العموم، بفضل كتابات ماركس... حاول ماركس بصفة ملحوظة أن يفهم الآخرين المعنى الذي كان يقصده باستعماله للمفهوم. فقد وظف استعارة القلب كما تتم داخل العلبة السوداء، و هي نقطة البداية في عملية التصوير الفوتوغرافي. منذ ذلك الحين أصبحت الوظيفة الأولى للإيديولوجيا هي إنتاج صورة معكوسة عن الواقع... إنه الرابط الذي أسسه ماركس بين تمثلات الوعي و واقع حياة الناس الذي سماه بالممارسة praxis. ستعني الإيديولوجيا إذن العملية الفكرية العامة التي بواسطتها تعمل التمثلات الخيالية على تشويه حياة الناس الواقعية...

2-    الإستعمال الثاني لهذا المفهوم، لا تظهر فيه الإيديولوجيا كظاهرة تشويهية و تزييفية فقط، بل أكثر من ذلك، إنها تبريرية... ترتيط هذه الوظيفة عندا تتحول أفكار الطبقة المسيطرة في المجتمع إلى أفكار مهيمنة  تدعي الكونية و الشمولية... إننا نعلم الآن من خلال تجربة السلطة اكليانية أن ظاهرة السيطرة السياسية، عندا تتعذى بالرعب، تكون ظاهرة أشمل و أكثر إثارة للخوف من ظاهرة الصراع الطبقي...

3-    يتحدد المفهوم الثالث للمفهوم، في وظيفة الإدماج، هذه الوظيفة على ما يبدو أكثر أهمية و عمقا من الوظيفتين السابقتين. و من اجل أن نفهم هذه الوظيفةن سأنطلق من استعمال خاص للمفهوم، تظهر فيه بوضوح وظيفة الإدماج. يتعلق الأمر بمسألة تخليد جماعة بشرية ما احتفالاتها و ذكرياتها الأساسية. بحيث يتمكن أفراد الجماعة من إعادة إحياء الأحداث التاريخية، كأحداث أولية مؤسسة للهوية الخاصة بالجماعة. ترتبط هذه الوظيفة بتكوين بنية رمزية للذاكرة الجماعية...

يجب علينا أن ندعم بقوة، الفكرة القائلة ن ليس عنصر الوهم أكثر الظواهر أهمية في عمل الإيديولوجيا، بل هو فقط تشويه و فساد يصيب عملية التبرير، هذه العملية التي تتجذر داخل الوظيفة الإدماجية للإيديولوجيا.

ب‌)   التحليل النفسي البنيوي للفيلسوف " لويس ألتوسير"


"
الإيديولوجيا نسق من التمثلات صور، أساطير، تصورات حسب الأحوال... يتمتع، داخل مجتمع ما بدور اجتماعي وتاريخي...إن الناس لا يُعبرون في الإيديولوجيا عن علاقاتهم مع ظروف عيشهم، بل عن الكيفية التي يعيشون بها علاقاتهم مع تلك الظروف.." يقول ألتوسير:" الأيديولوجيا.. هي الكيفية التي يعيش بها الناس علاقاتهم مع ظروف عيشهم، وهذا يفترض في ذات الوقت علاقة حقيقية وعلاقة خيال ووهم...ففي الإيديولوجيا تُوضع الحقيقة داخل العلاقة الوهمية، تلك العلاقة التي تُعبّر عن إرادة أو أمل وحنين أكثر مما تصف واقعا معينا

φ     تركيب عام لدلالة الوهم و الإديولوجيا

.....


[1] فرنسيس بيكون ، الأرغامون الجديد، عن : حبيب الشاروني، فلسفة فرنسيس بيكون ، دار الثقافة  الدار البيضاء ، 1981 ص-ص 124-126 (بتصرف)
[2]  نفس المرجع : ص-ص 124-126 (بتصرف)
[3] نفس المرجع : ص-ص 124-126 (بتصرف)
[4] أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الثاني  H-Q ، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت ـ باريس. ص-ص 611-612 بتصرف
[5]  (karl Marx, L’déologie allemende, éd. Sociale, Paris, p 78 ;   : عن ترجمة المؤلفين ، كتاب مباهج الفلسفة 1 باك ، مطبعة أفريقيا الشرق)
[6] (بول ريكور، من النص إلى الفعل، أبحاث في الهرمينوطيقا، طبعة سوي 1986، صفحات 419-426 (بتصرف). عن كتاب في رحاب الفلسفة ص 20)
[7] (Louis Althusser, Pour Marx, F. Maspero, Paris 1972.p.238-240.
عن دفاتر فلسفية ، العدد 8، ص 9-10 ، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، ومحمد سبيلا. عن كتاب مباهج الفلسفة. ص 24)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرغبة

إشكالية اللاوعي: البعد الواقعي و البعد الفلسفي والبعد النفسي