الرغبة


الرغبة

·        تقديم

يجدر بنا تذكر أن الإنسان يعي سلوكه، ووعيه هذا نابع من الشعور الذي يقترن بالفكر ليتحول إلى إدراك ثم وعي. لكن وعي الإنسان يظل دائما قاصرا، لأنه قد يدرك ما حوله في غرفته أو يدرك شعوره ببرودة الطقس. لكن وعيه الوجودي يظل دائما مبهما بالنسبة له، خاصة حينما يريد ترويض نفسه وتعلم عادات جديدة تتوافق وأهدافه.  هنا يجد الإنسان نفسه محكوما بقوانين داخلية نفسية وقوانين طبيعية اجتماعية خارجية. مما يضفي على الإنسان الشعور بعدم الحرية . وعلى الرغم من ذلك ، فالأمر الوحيد الذي يهون الأمر هو أن هاته القوانين كونية و حتمية على كل الجنس البشري . الشيء الذي سيدفع الإنسان لإعادة النظر و التأقلم مع طبيعة الوجود لا السير عكس التيار. الإنسان ابتداء كائن طبيعي محكوم بقوانين بيولوجية ، كما أنه كائن اجتماعي يغرس فيه المجتمع بنيته النفسية اللاشعورية سواء الفردية أو الجماعية. ومع ذلك فهو كائن وجداني ومفكر دائم الرغبة و الفعل الذي يحقق له اللذة و يجنبه الألم.  
 

·        الحاجة و الرغبة

الفرق بين الإنسان و الحيوان من حيث السلوك أنه أي الإنسان على الرغم من وضوح حاجاته الأساسية فإنه يتميز بالرغبة التي تجعل من سلوكه متقلبا من حين لآخر ، وهذا بسبب المثيرات الخارجية و أيضا بسبب بنيته النفسية التي تشكلت في الماضي منذ طفولته. يمكن التنبؤ بحاجات الإنسان كونيا لكن من الصعب التنبؤ برغباته المتباينة حسب الثقافة الخارجية التي تشكلت داخل المحيط و أيضا بسبب بنية النفس التي تتحكم فيها دوافعه اللاشعورية الفردية و الجمعية. ولهذا يمكننا أن نفهم سلوك الإنسان لكن يصعب علينا تفسيره و التنبؤ به بشكل كوني وحتمي ، لأن كل ذات متفردة.

ونحن نعلم أن الإنسان في كل لحظة يستقبل بواسطة شعوره موجات وذبذبات وصور تخترقه رغما عنه، وتحرك فكره ومخيلته و ذاكرته من إدراك لآخر. وهي تتقلب في الذهن بشكل لا إرادي من هواجس إلا تردد نحو الهم و صولا إلى العزم والإرادة. فالخواطر هي تلك الأفكار التي تأتي و تذهب فجأة دون أن تعلق بالذهن. أما التردد فهو نوع من التفكير المقرون بمحفز سواء داخلي أو خارجي يرفضه تارة ويقبله تارة أخرى. ومن مراتب التفكير الهم و هو الفكر المصحوب بالرغبة و الإرادة دون الإقدام على سلوك فعلي. لكن حينما تتوطد مثل هاته الهموم تتحول لإرادة عملية تدفع الإنسان للقيام بسلوك لتلبية رغبة الإنسان بشتى وسائل السلوك المتاحة في اللحظة الوجودية التي تحكمها أيضا قوانين اجتماعية و ثقافية.

الإنسان يتصرف وفق العادة التي نشأ عليها وهي في الغالب تتوافق وتربيته المنزلية و ثقافته الاجتماعية ، اللتان تكونان لديه معيار الحسن والقبيح و الصواب و الخطأ. وحينما يخالف الشخص تلك الضوابط يشعر بشكل تلقائي بالندم وقد يبلغ ذلك إلى القلق. لكن أغلب الرغبات الجامحة تظل بدواخل الإنسان لأنه لا يستطيع تجاوز تربيته و ضوابط مجتمعه. و من يتجاوزها يعد شخصا غير أخلاقي أو خارج القانون.

السلوك هو ما يعبر عن شخصية الإنسان بالنسبة للمجتمع ، لأنه من خلاله يصرف ويبرز قيمه و مبادئه و إيجابياته أو سلبياته. وأغلب الناس بل إن لم نقل الكل يتعاملون مع الظاهر ، أي مما صدر من سلوك. بمنطق الفعل و رد الفعل و وفق قانون السببية. لكن التأويل الحاصل في السلوك التواصلي عبر اللغة اللسانية و الجسدية يخلق عدة مفاجآت للشخص الذي يتصرف بتلقائية أو لنقل بسذاجة أو حتى وفق مبدأ أخلاقي صارم. لأن التعميم في فهم السلوك من طرف الأغيار لا يكون دائما صحيحا. لأنهم يحكمون ويحللون انطلاقا من تجاربهم الشخصية. وكأنهم علماء نفس أو محللين نفسيين.

·        الإرادة و الرغبة

قلنا أن الإنسان قبل القيام بالفعل أي السلوك فهو يمر بأربعة مراحل على مستوى التفكير، متأثرا بالواقع الخارجي بتفاعل مع بنيته النفسية الواعية واللاواعية. حقا يتدخل العقل في إحجام انفعالات الإنسان بتأجيلها أو إلغائها على مستوى السلوك، لأن دور العقل كالعقال الذي يحجم اندفاعات الإنسان اللقائية. وهذا ما جعل الفيلسوف "أفلاطون" يظن الحكمة في العقل القادر على تأخير حاجاتنا الأساسية، لكنه في المقابل يقر بأننا في حالات نومنا نتصرف في أحلامنا بشكل يتنافى وقوانين الواقع، و هذا هو ما بينه فيما بعد المحلل النفسي "فرويد". السلوك هو رغبة في الفعل سواء كان دافع هذه الرغبة اللذة أو الألم، وبتعبير  الفيلسوف "سبينوزا"  فالرغبة هي شهوة مصحوبة بوعي.  الإنسان بهذا المعنى هو متأثر بالواقع الخارجي و الداخلي و دافعه للسلوك احتياج أساسه الإحساس بالنقصان و عدم التوازن. و السلوك الهادف لإشباع الرغبة سعيه هو تحقيق هذا الإرتياح و التوازن والطمأنينة بل و السعادة ولو في زمن قصير. وبما أننا أصبحنا نفهم أننا آلات جد متطورة في استقطاب الموجات و الذبذبات الداخلية البيولوجية بفعل الحركة الهرمونات، و استقطاب الموجات و الذبذبات بفعل الأصوات و الصور من الواقع الخارجي ، التي تحرك شهواتنا. فنحن نعلم الآن مصدر رغباتنا التي تنبع من الداخل و الخارج رغما عنا و بدون استئذاننا.

يقول المحلل النفسي "جاك لاكان"  حيثما توجد الرغبة يوجد اللاشعور (...) فالرغبة استمتاع الجسد الموشوم بالتوترات والضغوطات الجنسية الدفينة و المنسية.  هذا يبرر اختلاف رغباتنا من شخص لآخر ، لأن كل واحد منا تجاربه الخاصة الدفينة في لاشعوره . لكن بما أننا نملك الإرادة و زمام أمورنا و نحن مسؤولون أمام أنفسنا وأمام المجتمع فكيف يمكن التعامل مع طبيعتنا لتحقيق حياة أفضل كما نتصورها نحن؟

الإرادة نوع من التفكير لو أخذنا المعنى بالمفهوم الديكارتي لذلك فهي ستنحو بالضرورة للمعرفة و الرغبة في تحقيق ما يمكن الانسان الإحساس بالابتهاج أو بالحب، كما أن الإرادة هي فعل قوة العقل الذي ينظر للمصلحة بحث يستطيع العقل بقوة الإرادة الامتناع عن رغبة معينة ظنا منه أنه سيحقق شخصه وذاته ، ويظن الفيلسوف "هيغل" أن الإنسان بامتناعه عن إشباع رغبة معينة هو قوة تتجلى في فعل الإرادة التي لا تخضع لسلطة الرغبة و الشهوة. إلا أن الشهوة ليست واحدة بل هي شهوات تتحول بفعل الوعي إلى رغبات منها الرغبات الضعيفة إلى الرغبات القوية. وكما بينا فيما قبل في مراحل التفكير التي يمكن أن نقول عنها أنها شهوة تمر بالهواجس لتنتقل لتردد و لتتحول إلى رغبة حين بلوغها درجة الهم، لكن لا تنتقل إلى سلوك و إرادة إلا بعد أن تبلغ درجة العزم و التصميم على الفعل. وهذا القول هو ما يتناسب وقول الفيلسوف "إرنست بلوك" أنه لا وجود " لإرادة غير مسبوقة برغبة قابلة للتنفيذ ".

·        الرغبة والسعادة

إن سعي الإنسان الدءوب في الحياة هو تحقيق السعادة. لكن هذا الإحساس الذي يفترض الشعور باللذة و المتعة والبهجة الدائمة عبر الزمن. يستحيل والطبيعة الإنسانية التي أساسها الاحتياج و النقصان و التقلب بين الألم و اللذة إلى الشعور بالملل. ولهذا فالسعادة تبدو فكرة مثالية بالنظر للحياة التي تملأها تجاربنا باختيارات متعددة تتمثل فيها سعادة كل إنسان في شيء معين. فمنهم من يرى السعادة في اللهو و المرح و منهم من يراها في الجد و الكد للنجاح ، و الصفة الأخيرة هي ما يظنها الفيلسوف "أرسطو" أنها السعادة كفضيلة . لكن بين هذا وذلك يقول الفيلسوف "سينيكا"  إننا نسمي الإنسان سعيدا إذا كان مدركا للحقيقة ومتحررا من سيطرة الرغبات و الأحاسيس و الألم (...) ونكون سعداء إذا قبلنا بحاضرنا مهما كان و إذا أحببنا ما نحن عليه؛ ونكون سعداء أخيرا عندما نترك للعقل مهمة تدبير جميع ما يتعلق بوجودنا.

جميل أن نترك لعقلنا تدبر أمورنا لأننا نظن دائما أنه قادر على حل مشاكلنا، فهو يلعب مع الزمن ، يؤجل اللذة و يتركنا نشعر بالألم و الحرام من أجل فكرة مستقبلية تتحقق فيها لذة أطول وأمتع ولنقل أشد سعادة من سابقتها ، بحث لا يتبعها ندم أو قلق. العقل أو بمعنى آخر الوعي بالواقع و النفس هو ما يجعلنا نرضا بحاضرنا وفق شعور لا يمنعنا من الحلم و التفكير بما هو أفضل سواء لأنفسنا أو لغيرنا. إنها إرادة القوة التي تحدث عنها الفيلسوف "نيتشه" بالعيش في الحياة بآلامها و آمالها وكلنا رغبة في التفوق.    

 السعادة طمأنينة و سكينة للنفس، و قدرة على تعقل الرغبات بالتوافق و الزمن حتى لا يشعر الإنسان بالحرمان. وما دام الشخص متعافي الصحية البدنية و النفسية و له من الناس من يحيطون به خاصة في أحلك الحالات، فهو في توازن. و لا يشتد عود سلوك الإنسان إلا حين يضع هدفا ومعنى لحياته منطلقا من ذاته كغاية ، فسعادة الآخرين هي أيضا مهمة لكن لا يجب أن تتعدى حدود نسيان الذات. لكل شخص إحساس داخلي بالمعنى المتجلي في العمل و الإنتاج و الكرامة و التقدير. قد نلجأ للغير لاستمداد بعض من هاته الأحاسيس لكنها تكون أجل وأعظم حين تنبع من ذات الشخص نفسها كما يعبر عن ذلك الفيلسوف "راسل". محنة الإنسان الراغب هي أن يبحث عن السعادة و يخطط لها وينسى حاضره المليء بالامتنان و العافية. ونسيانه هذا يزداد وطأة حين يحقق هدفه ويجد أنه كان يسعى لبلوغ السراب، فيتملكه الملل. وهذا الإحساس على الرغم من أن ظاهره النفسي مؤلم ومحزن ، إلا أنه دافع لاشعوري للتغيير وبذل الجهد و العمل.

·        على سبيل الختم

فكر كما تريد أو بتعبير أصح سيفكر بك كما يراد لك بطريقة لاواعية ، إلا أنك أيها الإنسان ستظل مسؤولا أمام نفسك و الغير. الخوف من أفكارنا لا يولد سوى السقوط في الأسوأ ، و العمل الجاد و الانشغال بالأفكار الإيجابية لا يتأتى إلا بالمحيط الإيجابي أيضا. وهنا مهمة الإنسان في لعب دوره داخل مسرحية الحياة. السلوك هو الآلة التي تحول الزمن من المستقبل إلى الماضي. ليس لنا من حاضر سوى أفعالنا. والإرادة هي المحرك الذي تدفعه طاقة الشهوات اللاواعية و الملذات الخارجية. واقعنا المعاصر و الحياة في هذا الزمن صعبة لأنها تحفز الاحتياج و تقوي ظاهرا الملذات ، غير أنها تخترق نفوسنا لتشعرنا بالحرمان والحاجة الدائمة لاقتناء شيء ما بالمال . وما دمنا لا نستطيع ابتياع ما نريد الآن و اللحظة ، ينتابنا شعور بالأسى ، و ما دمنا قادرين على اقتناء ما نريد و ما نرغب نشعر بالملل، ففي كلتا الحالتين تحكما قوى مبدأي اللذة و الألم. والوعي بهذا الميكانيزم أي البرمجة الداخلية للنفس و الجسد هو ما يجعلنا نتريث في الأحكام ولا نسقط في فخ الفعل ورد الفعل.

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مشكلة الوهم و الإديولوجيا

إشكالية اللاوعي: البعد الواقعي و البعد الفلسفي والبعد النفسي