‘شكالية الوعي : البعد التأملي الفلسفي


1)   البعد التأملي – الفلسفي

حري بنا أن نتأمل ظاهرة التفكير أو الوعي بالذات و المحيط الخارجي، بدل الركون إلى التعريف اللغوي الذي يفتح فقط أمامنا تعدد الاختيارات في الكلم، دون أن يبين الفوارق الملموسة بينها؛ فكيف تتم عملية الإدراك و الوعي؟

·       قال التلاميذ : الوعي و الإدراك على مراتب، فمنه الحسي المحض، و العقلاني الخالص، و المبني على العقل و الحواس معا.

·       مشكلة الوعي في التفكير الفلسفي الحديث

لقد كانت هذه الإجابات لشبيهة بأقوال و أطروحات فلاسفة الأنوار، حيث انقسمت المدارس الفلسفية إلى ثلاث اتجاهات، همت نصرة العقل بالنسبة للمدرسة العقلانية ، والدفاع عن التجربة باعتبارها أساس كل معرفة عند مؤيدي الاتجاه التجريبي، و الذود عن المعرفة التركيبية بنقد كلا الاتجاهين و الزعم بأن العقل و التجربة لا مناص لهما عن بعضهما إن أريد بناء معرفة ممكنة، وهذا زعم المدرسة النقدية.

إن السمة التي يتميز بها التفكير الفلسفي الحديث في القرنين الميلاديين (17 و 18) ، تكشف عن إرادة فهم طبيعة المعرفة وطريقة التفكير لدى الإنسان، لذلك فليس ثمة ما يثير الدهشة حين نجد فلاسفة النهضة يدعون لتحرر و الاستقلال التفكير لدى الكائن البشري من أجل إطلاق عنان الفكر عن أي سلطة أو وصاية ...

أ‌)       ولعل فلسفة ديكارت (1595- 1650) جاءت بنفحة جديدة ومغاير للفلسفة المدرسية في عصره، فثورته على المنطق الأرسطي والعلم الطبيعي الذي نادى به أرسطو، فضلا عن نقده للفلسفة المسيحية التي كانت سائدة في أيامه ، والتي كان يعتبرها امتدادا للفلسفة الأرسطية، جعلت منه " مؤسس الفلسفة الحديثة".

لقد عنى بالتفكير وبطريقة تعلمه من خلال وضع منهج يسير، يمنح المرء استقلالية الحكم على الأمور والتمييز بين المعارف الحقة و الزائفة. غير أن طريقته لم تسلم من النقد، إذ أن سمة التغيير والتحرر التي طبعت التفكير الفلسفي حينذاك، دفعت فلاسفة التجربة بدءا من نيوتن ولوك معلما القرن الثامن عشر للإقرار بأن " جميع فرضيات الديكارتيين ، أي البني الآلية المتخيلة لتعليل الظاهرات ، يتعين تحاشيها في الفلسفة التجريبية ... و لا يسلم نيوتن بأي علة إلا أن تكون قابلة لأن تستنتج من الظاهرات نفسها."(إميل برييه تاريخ الفلسفة القرن 18 الصفحة 10).

ب‌)  ويظهر اهتمام فلاسفة التجربة بالتفكير من خلال مؤلف لوك " محاولة في الفهم البشري"، أي دراسة العقل البشري وطاقته وحدوده ، حيث كان معرض حديثه عن الفهم، وعن موضوعات خاصة بالميتافيزيقا، من قبيل فكرة اللامتناهي، ومسألة الحرية ، وروحانية النفس ووجود الله و العالم الخارجي، بيد أنه لم يعالج هذه الموضوعات لذاتها ، بقدر ما عالجها لمعرفة مدى قدرة العقل البشري في تعيين هذه المسائل وبلوغ الدقة فيها. (إميل برييه تاريخ الفلسفة القرن 18 الصفحة 13-14).

ت‌)  وقبل نهاية القرن الثامن عشر يصدع الفيلسوف كانط بدعوة العامة لأخذ الجرأة أكثر فأكثر ليفكروا انطلاقا من ذواتهم، دون اتكال أو خضوع لوصاية طرف ما. كان جواب سؤال " ما التنوير؟" بمثابة الإعلان عن ضرورة تحرر الفرد و انعتاقه من وهم العجز على التفكير المستنير، لهذا نجد كانط ـ وهو مؤسس فلسفة النقد ـ  ما فتئ بنقد فلاسفة العقل و التجربة، بدعوى أنهما لم يعرفا و لم يسلكا المنهج السليم لإدراك عملية الفهم، و مدى قدرة العقل على المعرفة. فكان أن جدد دعائم الفهم والتفكير في كتابه نقد العقل الخالص و ما تلاه من كتب النقد.

 فما أسس التفكير الفلسفي لهذه المدارس؟ وكيف كانت تنظر للوعي باعتباره معرفة أولية للذات؟ وبأي منهج كانت تتوسل في تحصيل المعرفة سواء تعلق الأمر بالمعرفة الداخلية الباطنية للذات أو للعالم الذي يمثل موضوعا خارجيا ؟  

 

الاتجاهات الفلسفية الكبرى ما بين القرنين 17 و 18 ميلادي في أوربا
منهج المدرسة العقلانية
منهج المدرسة التجريبية
منهج المدرسة النقدية
العقل ملكة فطرية و هو أعدل قسمة بين الناس، وما الوعي بالذات إلى نتيجة تفكير ممنهج، مبني على الشك الموجب في الأخير للإقرار بالوجود الحق والذي لا يقبل الريب بأن الوعي يقوم على الأنا المفكرة؛ لذلك فعلى كل من ابتغى لنفسه بلوغ الحقيقة و إدراك الأمور على جادتها دون شك، فهو ملزم بإتباع منهج خاص يقوم التفكير و يعينه على الوعي بالنفس و ما عداها.
 تتمثل قواعد المنهج الديكارتي في أربعة قواعد، يقول عنها ديكارت(1595- 1650): " إنها قواعد وثيقة سهلة تمنع مراعاتها الدقيقة من أن يأخذ الباطل على أنه حق، وهي على التوالي:
1)    قاعدة اليقين أو البداهة
2)    قاعدة التحليل
3)    قاعدة التأليف أو التركيب
4)    قاعدة الاستقراء التام أو الإحصاء الشامل.
ليس العقل و الوعي إلا نتيجة ممارسات تجريبية حسية، تكسب المرء المعرف و التفكير نفسه؛ إذ العقل صفحة بيضاء في البدء، وتأتي الاختبارات لتملأه بالمعارف من خلال منافذ الحواس الخمس.
ويحتذي المنهج التجريبي خطوات علمية أيضا في بناء المعرفة حيث يتبع العالم الخطوات التالية : 
1)    ملاحظة الواقعة
2)    تولد فكرة في ذهن العالم بمثابة فرضية
3)    القيام بالتجربة بإحداث المتغيرات على المادة المدروسة 
4)    الوصول إلى ظواهر جديدة يتم معاينتها لاستخلاص النتيجة التي تكذب أو تصدق الفرضية.
يرى المنهج النقدي أن المعرفة تركيبية، فهو يسلم في البدء باحتواء العقل مقولات قبلية كما يؤمن بأن الفكر هو نتيجة لممارسات اختبارية، معللا ذلك بأن الوعي و الإدراك يشترط ملكتين :
1)    ملكة الحساسية أو الحدس، وعمادها نقل الصور الحسية من خلال الحواس إلى العقل. لتأتي:
2)    ملكة الفهم، وهي الكفيلة بتنظيم وتفسير معطيات الحدس وجعلها مدركات مفهومة.
إن الإدراك إذن، ما هو إلا وعي في صورته الاختبارية، إي أنه شعور مصحوب بإحساس.

 

إن هذه المحاولات للإجابة عن سؤال الوعي و الإنسان، تضعنا أمام سيرورة للفكر الذي ينتقل من الأطروحة إلى الأطروحة النقيض بلوغا نحو التركيب؛ إذ يبدو الوعي و الإدراك كعملية توافقية بين الجسم و النفس، كماهيتين متلازمتين في منشأ الوعي بالذات و المحيط الخارجي؛ غير أننا نجد لدى كانط قولا يبعث الريبة بل و الانتباه إلى هذه الأطروحة التركيبة حين قال:" لابد من الإشارة أن الطفل ، عندما يتمكن من الكلام، فإنه لا يشرع في الحديث بصيغة المتكلم أو باستعمال لفظ أنا، إلا بعد مدة طويلة ( حوالي سنة من تعلم اللغة ) وإلى حدود ذلك الوقت، فإنه يتحدث عن نفسه بصيغة الغائب، (زيد يريد أن يأكل، أن يمشي، إلخ..) وعندما يبدأ بالنطق بكلمة ((أنا))، فإن نورا جديدا يغمره، منذ تلك اللحظة فإنه لن يرجع إلى الصيغة الأولى لتعبيره عن نفسه. من قبل كان الطفل يحس بذاته إحساسا حدسيا حسيا مباشرا، والآن هو يدرك نفسه كذات تعي وتفكر."

المصدر: kant , anthropologie du point de vue pragmatique, Livre I § 1 p 9, tard, Foucault, Vrin 1994 (2 éme  édition )

عن المرجع: j. Russ , les chemins de la pensée, Bordas, 1999, p 303

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مشكلة الوهم و الإديولوجيا

الرغبة

إشكالية اللاوعي: البعد الواقعي و البعد الفلسفي والبعد النفسي